الفَقْرُ شرعا



الفَقْرُ شرعا:


لا شكَّ أنَّ تعريف الفقر شرعًا عند علماء المسلمين يتوقَّف على آرائهم فـي موضـوع الصَّدقات، وتوزيعها على مستحقِّيها، فالفقر أوَّل صفة يستوجب المتَّصف بها الأخذ من الـصَّدقات.
وقد اختلف العلماء في معنى الفقر، وحدَّه الَّذي يجيز الأخذ من الصَّدقة، وحد الغنى الَّـذي لا يجوز معه الأخذ منها على عدَّة أقوال:
القَوْلُ الأَوَّلُ: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ الفقر هو عدم ملك نصاب الزَّكاة؛ لأنَّ النَّبِـيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سمَّى مَنْ ملك النِّصاب غنيًّا، وذلك في قوله لمعاذ بن جبل: "فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُم أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّـاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِم".
ووجه استدلالهم بهذا الحديث أنَّ رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وصف الَّذين تؤخذ منهم الزَّكاة بالغِنَى، ومَنْ تـُدْفع إليهم الزَّكاة بالفقر، ومن المعلوم أنَّ الزَّكاة لا تجب إلَّا على مَنْ ملك النِّصاب، فإذا كان الأغنيـاء هم أهل النِّصاب؛ وجب أن يكون الفقراء ضدَّهم.

القَوْلُ الثَّانِي: حيـث حـدَّد أصحاب القول الثَّاني القدر الَّذي يوصف معه الغنيُّ بالغِنى، والفقيـر بالفقر.

1- فالإمام أحمد، والثَّوري، وابن المبارك قالوا: بأنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يكون للـشَّخص خمـسون درهما، أو قيمتها من الذَّهب، وحد الغنى أن يكون للمرء خمسون درهمًا، أو قيمتها مـن الـذَّهب، واستدلَّ أصحاب هذا القول بما رواه الدَّار قطني عن عبد الله بن مسعود عن النَّبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قـال: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِرَجُلٍٍ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا".

2- وذهب الحسن البصريُّ إلى أنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يملك الإنسان الأربعين درهما، أو قيمتها من الذَّهب، واستدلَّ الحسن البصريُّ بما رواه عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يقـول: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ".

3- وقال قوم: إنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يملك المرء عشاء ليلة، وحدَّ الغِنَى عكسه، وقـد رُوِيَ هـذا القَوْلُ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.

وقد احتجَّ أصحاب هذا القول بحديث عليٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أنَّه قال: "مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضَفِ جَهَنَّـمَ، قَالُـوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا ظَهْرُ الغِنَى؟ قَالَ: "عَشَاءُ لَيْلَةٍ"

القول الثَّالث: ذهب مالك، والشَّافعي -رحمها الله- إلى أنَّ حدَّ الفقر شرعًا هو ألَّا يملك الإنسان ما يكفيه من المال، وحدَّ الغني عكس ذلك، لكن أصحاب هذا الرَّأي قد اختلفـوا فـي تحديـد، وبيـان الضَّابط لما يكفي الإنسان من المال.
1- فقال الإمام الشَّافعي: هو أقلُّ ما يمكن أن يطلق عليه اسم أنَّه يكفي.
2- وقال (مالك) بأنَّه ليس في ذلك حدَّ معيَّن، وإنَّما هو راجع إلى الاجتهاد
والإمام الشَّافعي- رَحِمَهُ اللهُ - قد رأي أنَّه مَنْ كان قويًّا على الكسب، والتَّحرُّف مـع قـوَّة البـدن، وحسن التَّصرُّف حتَّى يغنيه ذلك عن النَّاس؛ فالصَّدقة عليه حرام
واحتجَّ بحديث النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سوي.
وهكذا فقد استدلَّ كلُّ فريق بما توفَّر بين يديه من أدلَّة شرعيَّة.
وأرجح الأقوال -وهو ما أميل إليه-فـي هذه المسألة: "هو رأي الإمام الشَّافعيِّ -رحمه الله-، وهو أنَّ حدَّ الفقر عدم ملك الإنسان لما يكفيه مـن مال مع تقييد هذا الحدِّ أيضًا بعدم القدرة على الكسب، والعمل ليخرج بذلك المسكين الَّذي يأتيه مال لا يكفيه مع كونه يعمل ويكسب، وسبب هذا التَّرجيح ما يلي:
1- أنَّ كلام الإمام الشَّافعيِّ أقرب الأقوال إلى العقل، وهو أنسب ما يمكن أن يُطلق على الفقر في الاصطلاح.
2- أنَّ أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - وَإِنْ كَانَ قد استدلَّ، واحتجَّ لرأيه بحديث صحيح إلَّا أنَّ تحديده لمفهـوم الفقر اصطلاحًا لم يكن دقيقًا، حيث جعل الفقر عدم ملك النِّصاب، وهذا الحدُّ قـد لا يفـصل، ولا يميِّز بين الفقير والمسكين، كما أنَّه يمكن ألَّا يملك الشَّخص نصاب الزَّكاة، ولكنَّه في الوقت نفسه قادر على الكسب، أو أن يكون عدم تملُّكه للنِّصاب نتيجة لظرف طارئ كبناء بيـت، أو شـراء عقار، أو اقتناء سيَّارة، أو غير ذلك، فعدم تملُّك الشَّخص لنصاب الزَّكاة لا يعني أنَّه فقير يستحقُّ الصَّدقة.
3- أمَّا أصحاب القول الثَّاني الَّذين حدَّدوا حدَّ الفقر (بخمسين) درهمًا، أو (أربعين)، أو عشاء ليلـة فقد استندوا إلى أحاديث غير صحيحة، إذ إنَّ بعضها ضعيف، وبعضها الآخر في الـسَّند رجـال متروكون.
وعلى هذا؛ فيمكن القول: إنَّ الفقر في الاصطلاح هو: "عدم ملك الإنسان لما يكفيه من مال، مع عدم القدرة على الكسب والعمل"

وجاء في المفردات في غريب القرآن أنَّ "الفقر يستعمل على أربعة أوجه:
الأَوَّلُ: وجود الحاجة الضَّروريَّة، وذلك عام للإنسان ما دام في دار الدُّنيا، بل عام للموجودات كلها، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، وإلى هذا الفقر أشار بقوله في وصف الإنسان: ﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 8].

والثَّاني: عدم المقتنيات، وهو المذكور في قوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273].

الثَّالث: فقر النَّفس، وهو الشَّره المعنيُّ بقوله -عليه الصلاة والسلام: "كاد الفقر أن يكون كفرًا".
الرَّابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك)

و الواقع أن هذه المؤشرات هي تعبير عن ظاهرة الفقر الإنساني في حد ذاتها حيث يكون الحديث عنها هو حديث عن الراهن الاجتماعي ة الاقتصادي للمجتمع من جهة ، كما أنه من جهة أخرى قراءة لطبيعة وحدود التطور الإنساني في مفهومه العام




تعليقات